من المؤسف حقاً أن الغبار الكثيف الذي أثاره ويثره المتزمتون دينياً حول العلمانية والعلمانيين منذ عقود، وحملات التضليل والتزييف مازالت مستمرة بأشكال وعناوين مختلفة والهدف واحد هو منع انتشار العلمانية في مجتمعاتنا العربية، بحجب معناها وطبيعتها عن الناس وتنفيرهم منها، وتحفزيهم على مقاومتها من خلال إلصاق التهم كيفما كان بالمؤمنين بها بأنهم ليسوا إلحاديين فقط، بل ومنفلتين أخلاقياً.
هذا ما فهمته لدى قراءتي لمقالة السيد حسان محمد محمود المنشورة على موقع سيريا نيوز بتاريخ 8/10/2010 بعنوان " يا لوطيي و سحاقيات العرب...اتحدوا !" ربط فيه بين المثليين جنسياً وبين العلمانيين، حيث بدأ باتهام بعض العلمانيين بقوله:( إلى متى يبقى بعض العلمانيون العرب مصرون على طلب "البوظة" فيما جماهير مجتمعاتهم تشيّع كل يومٍ جزءاً من أرضها وكرامتها وكبريائها وأبسط مقومات عيشها الكريم؟) ثم يختم الكاتب مقالته بتوجيه الاتهام إلى كافة العلمانين العرب بقوله :( وأحسب أن شعار "يا لوطيي وسحاقيات العرب...اتحدوا" ليس مناسباً للمرحلة، ليس مناسباً إطلاقاً سادتي العلمانيين، وأظنه يرسخ حالة الاحتقار المتبادل بينكم وبين شعوبكم، تماماً كما هي علاقة الاحتقار المتبادل بين المالومعظم الفقراء في هذا العالم العربي الشا.....سع.).
يعلن السيد حسان محمود أنه ضد المثلية والمثليين، وهذا حقه، ولكن ليس من حقه رمي التهم جزافاً واتهام العلمانيين وزجهم في أمور لا علاقة لهم بها، ثم من قال للسيد الكاتب أن من كتب دفاعاً عن حقوق المثليين هم من العلمانيين؟ وعلى فرض أنهم علمانيون ، فهل يجوز أن نتهم جميع العلمانيين العرب بذلك لمجرد أن واحد أو اثنين - على ما أعتقد- قد دافعوا عن حقوق المثليين..؟
أن تكون ضد العلمانية فلا بأس عليك، وأن تكون ضد المثلية فهذا حقك، المهم أن يبقى هناك مكاناً للكلام وفسحة للحوار، لكن أن يصل الأمر بالبعض إلى اتهام العلمانية بالانفلات الأخلاقي ووصف العلمانيين العرب بأنهم محتقرون من شعوبهم؟ فهذا أمر يخرج عن مجرد إبداء رأي أو اتخاذ موقف ليصل إلى حد التجريح والتشهير والتهويل والتحريض قد يهدد العلمانيين العرب في حياتهم وأموالهم بحجة الدفاع عن الشرف والأخلاق والدين.
إنها حملة مبرمجة الهدف منها ليس تضليل الشعوب العربية بل وإخافتها من العلمانية والعلمانيين تارة تحت ستار بأن العلمانية ضد الدين، وتارة أخرى تحت ستار أن العلمانية تدعو إلى الانحلال الأخلاقي ونشر المثلية ، مع تكرارنا الممل أن العلمانية غير الإلحاد وليست إنحلالاً ، فالمثلية لم تأتينا من الغرب، بل كانت ومازالت موجود في مجتمعاتنا قبل أن يكون هناك غرب وشرق فهل كان الشاعر أبو النواس نديم الخليفة العباسي هارون الرشيد علمانياً عندما كان يتغنى ويتفاخر بعلاقته مع الغلمان :
فإن أردتم فتاة أتيتكم بفتاة
وإن أردتم غلاماً رأيتموني مؤاتي
فثاوره مجوناً في وقت كل صلاة
فالعلمانيون العرب الذين يراهم السيد حسان محمود محتقرين من شعوبهم، لا يدعون إلى الانحلال الأخلاقي والمثلية، ببساطة شديدة إنهم يدعون إلى أن تقف دولنا العربية موقف الحياد من العقائد والمذاهب التي تدين بها مكونات شعبوبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها وسياساتها وخططها وتعييناتها – بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية والثقافية - منطلقة من مذهب أو دين معين، وإن كان مذهب أودين الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين وتمييز ضدهم وإخلال بمبادئ المساواة والعدالة والمواطنة. ولا يدعون إلى التقليل من شأن الدين ومكانته السامية في النفوس ودوره المؤثر في المجتمع، بل يدعون إلى عدم إقحام الدين في الشأن السياسي اليومي المتحول أو في اللعبة السياسية المتذبذبة يسارا ويمينا، وحفظ هيبته ومنزلته وتنزهه من السقوط في وحول السياسة التي تتغير قواعدها وآلياتها بتغير الأهواء والظروف والشخوص والمصالح.
هذه هي العلمانية التي يدعو العلمانيون العرب إلى تطبيقها في بلداننا العربية، والتي سبقنا الغرب الذي ننعته بالكفر والرذيلة إلى تطبيقها منذ عام 580 هجري، عندما ثار فقهاء العرب على تعاليم ابن رشد واتهموه بالزندقة فحاكموه وأحرقوا كتبه الفلسفية التي التهمتها العقول في الغرب، بعد أن حولناه بأيدينا إلى رماد ، بينما حولها الغرب إلى نور مزقت ظلمتهم لتنير الطريق أمامهم وصولاً إلى عصر النهضة..وهكذا غربت العقول في مجتمعاتنا بعد أن كُبلت وسُجنت في غياهب الظلام، لتشرق في دول الغرب بعد أن تحررت الأفكار وساد الفكر التنويري ، فيما نحن مازلنا نحن نعيش اليوم في ظلام وتخلف وانحطاط وننتظر ما يأتينا من الغرب من صناعات وابتكارات واختراعات ونعتاش على ما تنتجه الدول الغربية التي اعتمدت منهج العقل وأخذت بالعلمانية كمنهج ووسيلة لتنظيم العلاقة بين ما هو سياسي وما هو ديني، بينما نحن مازلنا نعيش على الأطلال والأمجاد الغابرة وندبج المقالات والدراسات فخراً بأننا كنّا سبباً في نهضة تلك الدول الغربية والتطور والتقدم العلمي.
ترى لو أن الدول الغربية التي أخذت بالعلمانية ارتضت لنفسها بما كان يجرى من قمع لحرية التفكير وحجر على العقول وتدخل في كل قرار دنيوي على يد الكنيسة ورجال الدين وتفسيراتهم، هل كانت استطاعت أن تحقق نهضتها الراهنة وأن تصل إلى ما وصلت إليه من إنجازات في شتى المجالات الإدارية والحقوقية والتربوية والعلمية والصناعية والاقتصادية إلا بعد أن تحررت من سطوة الكنيسة وتفسيراتها المتشدد، وليس من الدين نفسه، وأقامت الدولة المدنية العلمانية ؟ أم كان سيكون مصيرها كمصيرنا نحن العرب بعد أن ارتضينا الارتهان لرجال الدين وتفسيراتهم تفعل فعلها في أدق تفصيلات حياتنا اليومية منذ إحراق كتب ابن رشد.
المحامي ميشال شماس:( كلنا شركاء)
لقراءة مقال يا لوطيي و سحاقيات العرب...اتحدوا !
المحامي ميشال شماس - كلنا شركاء
No comments:
Post a Comment