قبل البدء: في البدء نكون مثليين
كثيرة هي الفرضيات العلمية حول مصدر ميولنا الجنسية ومنشئها، يتعذّر علينا الانحياز لإحداها، وهو في كلّ أحواله، انحياز لن يفيدنا كثيراً في دعم حقوق المثليين، خلافاً لما جرى الاعتقاد به، وهذا ما سنعرج عليه لاحقاً، على أنّ إحدى تلك الفرضيات، يهمّنا أن نستعرضها الآن، ليس انحيازاً إليها، وإنما لأجل عدم تركها وإهمالها.
أقصد بالفرضية العلمية تلك التي ينادي بها الكثير من الباحثين، وتؤكّد أننا جميعنا نولد مثليي الجنس، أو أننا، على وجه التحديد، نخرج من أرحام أمهاتنا بميول جنسية مزدوجة، ويستغرق منا الأمر حيناً من الدّهر قبل أن يصبح غالبيتنا غيريي الجنس؛ هذه الفرضية، سواء لأننا نلاحظها بالحسّ والحواسّ، أو لمجرّد أنها فرضية علمية، فإنّها تمنحنا الحقّ في أن نستنتج بأنّ الممارسات الجنسية المثلية حقّ طبيعي من حقوق الإنسان، وأنها لكذلك في كلّ أحوالها؛ سواء اعتبرناها ثمرة الفطرة أو الرّغبة أو الإرادة، وفي هذا التقدير خلاف سنعرض لبعض جوانبه بعد حين.
ماذا بوسعنا أن نستنتج الآن؟
هل يمكننا أن نستنتج بأن المثليين والمزدوجين هم أشخاص طبيعيون، بل هم أكثر طبيعية منّ الغيريين المنزاحين عن فطرتهم الأولى؟
معظم الثقافات التقليدية تستحضر هذه الخلاصة، وتتفهم تلك القابلية للمتعة المثلية وللمتعة المزدوجة، ولا تختلف سوى في أساليب ووسائل تلبيتهما وحدود الهامش المتاح لهما، وحتى بعض الديانات التي يبدو وكأنها جرّمت الأفعال المثلية، فإنما جعلتها في عداد شهوات الجنّة ومتع الآخرة، وفي كلّ الأحوال ثمّة تواضع إنسانيّ على الاعتراف بوجود شهوة مثليّة، متجلّية أو كامنة، لدى الكثيرين ولو بدرجات متفاوتة في التجلّي والكمون.
هل بوسعنا أن نختبر فرضيتنا الآن؟
إذا كانت صحة أيّة فرضية تتأتّى من قدرتها على تفسير ظواهر جديدة، فلعلّنا نلتمس في فرضيتنا، تفسيراً لظاهرة رهاب المثلية، باعتبارها نوعاً من الخوف الباطنيّ من شيء نحمل أثره في ذواتنا على الدّوام.
وترانا الآن واقفين على عتبة سؤال جديد: إذا كنا لا نولد بالضرورة غيريين، فكيف نصبح كذلك؟
هل بالتعلم والتمرّن حدّ المقاومة والعناد؟ هل هو الضغط الثقافي لأمّهاتنا تحت تأثير عقدة الخصاء لديهن؟ هل هو الميل الطبيعي لأعضائنا التناسلية صوب علّتها الغائية؛ حيث علّة وجود القضيب، أن يمتع المرأة، وعلّة إمتاعها الإخصاب، وعلّة إخصابها التناسل…؟
موضوع العلّة الغائية يضعنا أمام أوّل تحدّي، وهو أرسطو.
أرسطو والمثليون: استنباط متسرّع
العلّة الغائية هي ما يبرّر وجود الشيء حسب منطق أرسطو، ومن ثمّة قد نستنتج ولو باستدلال متسرّع، بأنّ الشهوة موجودة من أجل غاية أخرى تتجاوزها، لهذا السبب انهال الكثير من المناضلين المثليين بالنقد على أرسطو، إلاّ أنهم فعلوا ذلك لسبب آخر أيضاً.
لا شك أنّ أرسطو لم يكن معادياً للممارسات المثلية، لكنّ الكثير من المناضلين المثليين يعتقدون بأن منطق أرسطو ثنائيّ القيم، قد كرّس في الوعي البشري تلك النّظرة الثنائية إلى الجنس، والموصولة بمبدأ الثالث المرفوع: إنّك إمّا أن تكون ذكراً أو تكون أنثى، ولا يمكنك أن تكون كليهما في نفس الآن، ولا يمكنك أن تكون لا هذا ولا ذاك في نفس الآن.
أرسطو لم يقل ذلك القول بصريح اللفظ والعبارة، لكنّ الكثيرين اعتقدوا أنّ ذلك القول هو النتيجة المستنبطة من منطق أرسطو ثنائيّ القيم.
ولعلّ هذا الاعتراض الجنسمثليّ على منطق أرسطو، يُغفل معطى تاريخياً أساسياً، وهو أنّ رفيق أرسطو ونموذجه في البطولة والزعامة كان مثلياً سلبياً، ألا وهو الإسكندر الأكبر، فكيف يجوز لنا أن نستنبط من منطق أرسطو أية نزعة معادية للمثلية؟ ألا يتعلق الأمر باستنباط متسرّع؟
فرويد والمثليون: العودة إلى السياق
العديد من المناضلين المثليين الجذريين، يعتقدون بأنّ سيغموند فرويد يتحمّل مسؤولية إشاعة الموقف الذي انتهى إلى تصنيف الممارسة المثلية ضمن الأمراض النفسية، وذلك حين اعتبر المثلية "توقّفا في النموّ الجنسي" للإنسان، ومعلوم أنّ المنظمة العالمية للصحة نفسها، لم تقرّر حذف المثلية من لائحة الأمراض النفسية إلاّ في عام 1990، بما يعني أننا تأخرّنا كثيراً، وأنّ نخب الفكر العقلاني الغربي قد تكون ساهمت في هذا التأخّر.
نفترض ابتداء بأنّ الأمر يتعلّق بمجرّد سوء تفاهم، انتهى إلى تصنيف مكتشف اللاّشعور، ومن منظور بعض الحركات المثلية الجذرية، ضمن التيار المحافظ والمعادي لحقوق المثليين، والحال أن اللوم الموجه لفرويد، يغفل عن ذكر، أو عن إدراك، السياق الذي قرّر فيه فرويد -والذي لم يكن معادياً للجنسمثلية- أن يعتبر المثلية بمثابة توقّف في النموّ الجنسي.
موقف فرويد جاء ضمن فرضيات تحليلية كانت في طور الاختبار، فرضيات تجعل المراحل الأولى للنمو الجنسي عند الأطفال، بمثابة الحلقة المركزية والحاسمة في تحديد اتجاهات النمو عند الإنسان، لذلك كان فرويد يستبعد أية إمكانية لتعديل اتجاهات النمو الجنسي، والتخلص من التثبيت La fixation، إذا ما "اكتمل نضج وتطوّر" الشخص في أيّ اتجاه من الاتجاهات، غير أنّ الموقف التحليلي الفرويدي تزامن أيضاً، مع سياق اشتهر بحملات التحريض على كراهية المثليين، حملات شنّها النازيون منذ المراحل الأولى للدعاية النازية، وجاءت في سياق تاريخ ثقافي معاد للمثليين، قبل أن يتم اقتياد العشرات من المثليين إلى معسكرات الإبادة الجماعية، وذلك عقب بداية هيمنة الحزب النازي على السلطة. وهكذا طوّر فرويد فرضياته التحليلية، في اتجاه نزع طابع الجريمة عن الميول الجنسية للمثليين، وسحب المشروعية عن دواعي تجريمهم ومعاقبتهم.
أما حين نستحضر موقف فرويد من المثليين، بمعزل عن فرضيات النمو الجنسي عند الأطفال، وبمعزل عن حملات التنكيل التي عاينها فرويد، مع بدايات صعود النازية، فإننا نظلم كلاّ من التحليل النفسي والمثليين على حد سواء، وحين نقف عند حدود القول بأنّ التحليل النفسي اعتبر المثليين أشخاصاً "يعانون" من "أوديبية مقلوبة"، بمعنى "غير طبيعية"، جراء "توقف نموهم الجنسي"، فإننا ننسى بأن الأصل في كلام فرويد أنه يختبر قدرة فرضياته التحليلية على مواجهة سياق ثقافي معادي للمثليين، منذ القرون الوسطى ووصولاً إلى حملات النازيين.
وأيّا يكن، فحتى لو اتفقنا مع بعض المواقف التي تقول بأننا حين نعتبر المثلية توقفاً في النمو الجنسي، فإننا نفتح الباب أمام القول بأنّ المثلية عرض سيكولوجي، إلاّ أن فرويد هو نفسه الذي يعتبر كافّة أشكال الإبداع الفنّي والجمالي من أطيب ثمرات الأعراض النفسية والأمراض اللاّشعورية، إننا حتى في الحبّ الجنسي الغيريّ، نفيض باستيهامات غير عادية، وقد لا تكون سوية بالمعنى المبتذل للسوي، ومحصلة القول، أن فرويد هو من يعلمنا أننا لا نكون أسوياء ولا نكون عاديين إلا حين نكون مبتذلين.
لقد ناهض فرويد موقف النازيين والذي يعتبر بأن المثلية قدر بيولوجي يحمله بعض الأشخاص منذ ما قبل الولادة، ولا سبيل لتغييره من غير الاجتثات، وحاول أن يعثر للظاهرة على تفسير يحررها من كل أشكال الحتمية البيولوجية، ليجعلها مجرّد اختيار لاشعوري.
وواقع الأمر أن المثليين غير متماثلين وغير متجانسين، فمستويات التفريغ العاطفي تختلف، ودرجات السلبية أو الإيجابية تتفاوت بدقة لا متناهية من فرد لآخر، كما أن العلاقة بين الميل والممارسة تتنوّع من فئة لأخرى، وما قد يندرج في بعض عوامل الوراثة لدى البعض، ليس أكثر من ميول نفسية لدى البعض الآخر، وما هو مجرّد ميل جسدي لدى البعض، هو أيضاً انجذاب عاطفي لدى آخرين، ومن هنا لا يمكننا أن نستبعد الفرضية الفرويدية عن بعض مظاهر الجنسمثلية باعتبارها نوعاً من الأوديبية المقلوبة، شريطة أن لا نعتبر الأمر سلبياً، تماما كما تستطيع بعض الحركات المثلية أن تفترض أهمية التفسير البيولوجي، من غير أن تنتهي إلى نفس النتائج الاستئصالية للنازيين.
يتبع ...
No comments:
Post a Comment